محمد بنيس : للشعر ضرورة مضاعفة اليوم، وما يجب أن يبقى هو اللغة

محمد بنيس : للشعر ضرورة مضاعفة اليوم، وما يجب أن يبقى هو اللغة

الجمعة, 10 فبراير, 2017 - 11:18

(أحمد الطاهري)

 

المحرق (البحرين) – في ليلة باردة، تدفأ مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث بمدينة المحرق التاريخية (شمال البحرين) بباقة من قصائد الشاعر المغربي الفذ محمد بنيس. لمعت شمس الكلمات وأينعت شجرة الحلم في قصائد “فاس الدهشة”، و”تحت سماء الخطوط”، و”سكر”، و”لم أعد أذكر متى جاءني الأزرق”..

القصيدة الباذخة، معنى ومبنى، سبرت أغوار المجهول واللانهائي. شعر فرض بهاءه على الفضاء وحفر عميقا في الذوات وهي تنصت لارتطاماتها الداخلية. كانت ذبذباته لذيذة وموجعة في آن. ذبذبات كان وقعها ممتدا لا آنيا.

إنها صنعة الشعر البارعة: الصور تولد وتلاحق بعضها البعض واللغة شفيفة وكأنها تتدفق صافية من نبعها الأول. حركات اليد تؤثث المشهد وكأنها يد مايسترو يبدع تقاسيم سمفونية فريدة، والصوت ينخفض حد الهمس ثم يعلو كموج هادر قبل أن يخيم الصمت على المشهد.

إنه الشاعر الحداثي يغدق الجمال مدرارا، ويفتح نوافذ الحلم السالك نحو طهرانية الذات والعالم، نحو المرتع الخصب الشاسع للحياة والحب.. هي صرخة الحرية مدوية في وجه التحجر والانغلاق، البشاعة والقبح.. من غير الشاعر يفك طلاسم وجودنا الغامض والغرائبي ويكنس الرواسب المتحرجة في دواخلنا؟. من غيره يدثرنا بورقة البهاء لنستدفئ من برد وعراء الوقت.. ؟ “إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره”، يؤكد ابن رشيق القيرواني في كتاب “العمدة”.

وطأ بنيس لقراءته الشعرية برسم صورة قاتمة للزمن الراهن المضاد للشعر، حيث نجتاز في زمن الأدب التجاري الإعلامي مرحلة العولمة وهجران اللغة التي لم يبق لها بعد، وهذا الهجران هو للشعر أيضا. لقد سجل بمرارة أن الشعر العربي انطلق من فكرة العروبة وأساسها اللغة والآداب، “وهذه الفكرة ستغيب عنا غيابا شبه طويل”.

فكرة العروبة هي التي أعطت اللغة العربية مكانها، وكان الشعر في مقدمة الأدب الذي قام بثورة في الثقافة العربية، وكل من يعرف الشعر العربي يدرك أن الشعراء قاموا بعمل مدهش في اللغة العربية وفي العقلية والخيال والتصور. وهذا كله يتعرض اليوم للهجران إما إلى الرواية وإما إلى خطاب ديني متزمت، أو إلى خطاب إعلامي استهلاكي.

هجران اللغة هذا يتطلب، من منظور الشاعر، مقاومة من خلال اعتبار الشعر لغة أولا. إن حب الشعر والدفاع عنه هو أولا تمسك باللغة والاشتغال عليها لأن ما يجب أن يبقى هو اللغة، وما يبقى يؤسسه الشعراء وحدهم.

الشعر سيد المجهول لا المعلوم، وثمة حاجة للعودة إلى المجهول، إلى الأساس في الإنسان. الإنسان أساسه ليس المعلوم ولكن المجهول، إنما هو ليس هذا المجهول الذي يلتبس علينا ولكنه المجهول الذي يقودنا نحو اللانهائي فينا، وهذا لا يكون إلا من خلال هذا الشعر الذي يفجر كل الحدود الممكنة من أجل بلوغ الأفق اللانهائي.

إن كل الشعراء الذين يقاومون من أجل الشعر، يؤكد صاحب ديوان “هناك تبقى”، هم واعون أكثر بدور الشاعر في هذا الزمان. إنه ليس شاعر الخطابة أو البلاغة، وليس شاعر الفتنة.. هو شاعر يشتغل في المناطق السلمية التي نكاد لا نراها.

في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، شدد الشاعر على أن الشعر كان دائما ضروريا لأنه هو العنصر الذي يصل بالإنسان من خلال اللغة إلى أصفى حالات الأحاسيس والعلاقة بالأشياء وبالآخرين وبالكون. إلا أن هذه الضرورة تأخذ أشكالا متعددة حسب مراحل من التاريخ أو أوضاع حضارية وعلمية مختلفة.

نحن اليوم نعيش مرحلة صعبة في العالم العربي مطبوعة بالتطرف الديني وفكر الانغلاق الذي لا يرى في الحياة سوى ما بعد الموت، يردف بنيس، مبرزا أن الشعر هو لغة الحياة، والتشبث بالحياة هو تشبث بالشعر في الوقت نفسه لأنه هو الذي يعلمنا في كل لحظة كيف يمكن أن نتعامل مع تفاصيل حياتنا ولكن في نفس الوقت مع الأسئلة الكبرى التي نحس أنها تعترضنا في حياتنا أو أنها تفتح لنا أفقا لكي نتعلم كيف نعيش.

لذلك يجزم الشاعر بأن ضرورة الشعر اليوم هي ضرورة مضاعفة، وهذا ليس مجرد كلام بلاغي أو دعائي ولكنه صادر عن تصور للشعر وأهميته عبر المجتمعات والتاريخ، وهذه هي الضرورة المضاعفة التي لا بد أن ننتبه إليها اليوم في العالم العربي إذا كنا فعلا نفكر في تجاوز ما نعيشه بأفق مفتوح على المستقبل، ولا نكون في تفكيرنا منحصرين فقط في تفكير إما أمني أو وقائي محدود الفاعلية والأثر.

وعن الشعرية، يوضح بنيس أنه في القديم كان الإلمام بالتقنية الشعرية محدودا في مجموعة من القواعد الأولية وكان على الشاعر أن ينمي في ما بعد شخصيته الشعرية، أما اليوم فلم تعد هذه الضوابط بالصرامة التي كانت عليها من قبل. هناك ضوابط أخرى منها ما يمكن أن نلمسه بسهولة وهناك ما لا يمكن أن نعرفه إلا من خلال شاعر معين.

إن الشعرية اليوم، وكما في كل الأزمنة، شعرية فردية ولكن كان هناك غطاء إما للشعرية العربية أو الشعرية اليونانية أو الفارسية وغيرها وهذا شيء طبيعي، إلا أننا اليوم، يبرز الشاعر، أمام شعريات فردية أوضح، وهي شعريات تتطلب مجهودا مضاعفا في استيعاب هذا الجانب الذي كان أساس بناء القصيدة العربية أولا، ثم الانفتاح على التجربة الشعرية الحديثة في كل مكان، لأن هذا هو مصيرنا، وفي الوقت نفسه لابد من أن يستطيع الشاعر أن يصل إلى تكوين لغته الخاصة وعالمه الشعري الخاص، وهو ما يبرر كتابة الشعر، وبهذا نصل إلى النقطة الأساسية وهي الصوت الشخصي للشاعر وشاعريته.

ويظل سؤال اللغة بالنسبة لمحمد بنيس، الشاعر غير المتفائل وغير المتشائم بل الشاعر المتسائل، سؤالا متجددا ومتواصلا كأنه يحفر في أعماق بعيدة ولا يخرج من هذه الأعماق بل يستمر في الحفر.

إن الاهتمام باللغة الذي كان في البداية مجرد حدس لم يعد كذلك، بل تحول إلى هم شعري يومي ثم إلى هم ثقافي لأن “مسألة اللغة في عالمنا الحديث جدية، ذلك أن اللغة تتعرض الآن للهجران وبمستويات متعددة، ولابد أن ننتبه لهذا، ونحن كنا نعثر أحيانا على شعراء هم أول من لا ينتبهون إلى أن اللغة مهددة، ويعتبرون أن الكتابة هي مجرد نزوة أو مجرد نشوة أو تزيين”.

وهذا يعني، في نظر الشاعر، أن المنطلق له أساس واقعي والاستمرار فيه “يشكل بالنسبة لي باعثا على التشبث بالسؤال والاستمرار فيه بدون تراجع وبدون تنازل أو تساهل”.

وعن العلاقة الملتبسة بين الشعر والسياسة، يوضح صاحب ديوان “ورقة البهاء”، أن لغة الشعر مفتوحة فيما لغة السياسة مغلقة على لحظة محددة نفعية وذات نتائج فورية. ويجزم بأن الشعر ليس هذا هو ميدانه، بل هو يشتغل على ما هو بعيد فينا وحولنا، وهذا هو الذي يعطي المعنى الأعمق للحياة.

نعم إن السياسي يقوم بحل مشاكل تسيير المدينة بالنسبة للأفراد والجماعات، يستطرد الشاعر، لكن الشعر يقوم بحل مشاكل أخرى تعترض الوجود الإنساني من حيث الارتباط بالحياة والكون وبالآخرين حيث ما كانوا. الشعر هو الضوء الذي لا يمكن أن يأخذ في اعتباره الآنية أو الظرفية. إنه يذهب أبعد مما يمكن أن يتخيله السياسي.

وهنا يمكن التأكيد دائما بأن السياسي محتاج للبعد الشعري ليكون ذا إبداع في الرؤية، والشاعر لا يمكن أن يكون، في هذه الحالة، “مجرد خادم للسياسي أو مجرد مطيع ومكرر ومنفذ لما يقوله”.

ويذكر بنيس بأنه دافع دائما عن أن الشعري ليس تابعا للسياسي، ولكن له فضاؤه الخاص الذي يجب أن نستكشفه أولا، وعندما نستكشفه يجب أن نعود إليه ونشيعه ونعمل على تعميمه. وهذا هو الهدف البعيد من الاستمرار في الكتابة والتنبيه إلى أهمية الشعر في حياتنا وعدم اختزال الحياة الإنسانية في لحظة آنية يمثلها السياسي بما يأخذه من قرارات ومواقف.

وعن الحركة الشعرية الجديدة بالمغرب، يختلف بنيس كثيرا مع قول البعض إنها حركة متواضعة ومحدودة وتوقف بريقها مع شعراء جيل السبعينيات، مشددا على أن ثمة حيوية شعرية قوية جدا في المغرب حاليا. “هناك شبان جيدون لهم الجرأة في الكتابة والبحث، وأنا أحييهم. لهم حضور مغربي وعربي وهم يفتحون أفقا جديدا للقصيدة في المستقبل ليس بالنسبة للمغرب فقط، ولكن بالنسبة للعالم العربي أيضا، والقصيدة التي يكتبونها مهيأة لتلتقي بالعالم وتتحاور مع شعرائه”.

لذلك، فإن النظر إلى هذا الشعر، يرى بنيس، لا بد أن يكون له وعي بالوضعية الشعرية الآن في العالم العربي وفي العالم حتى يستطيع أن يرى جيدا ما الذي يحدث. “نعم إنها حركة شعرية بدون ضجيج وربما لأن الضجيج يختفي عنها، هناك من لا يستطيع بعد أن يرى. لكن العمل الشعري سيفرض نفسه، وأنا متأكد بأن الحركة الجديدة في الشعر المغربي لها مكانتها وستثبت مع الأيام”.

وعن موقع الشعر على شبكات التواصل الاجتماعي، أوضح أن هذه الشبكات تطرح سؤالا كبيرا حول فاعليتها بالنسبة لجودة العمل المكتوب، بالنظر إلى انتفاء قيود أو شروط على النشر فيها بخلاف المجلة أو الديوان أو الجريدة الورقية، مستطردا أنه رغم جميع السلبيات المعروفة، هناك جانب قد يكون مفيدا وهو أن قراء الشعر زاد عددهم بفضل هذه المواقع.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه، في نظر الشاعر، هو ما هي هذه القراءة؟، هل هي قراءة متفحصة أم مجرد اطلاع؟، فضلا على أن الكتاب هو الذي يوفر العلاقة الحميمة والعميقة بالعمل الشعري والعمل الثقافي بصفة عامة.

وعن موضوع النشر، يؤكد بنيس أن هناك حاليا إمكانات أوسع للنشر في المغرب مما يمكن أن يوجد في دولة عربية أخرى، لكن المشكل هو أن القراء لا يقبلون على الشعر لأن الاهتمام الإعلامي منصب على الرواية، وهذا ما يشكل عائقا أمام وصول القارئ إلى قراءة الشعر. ولابد أن نفصل بين هذا الواقع الثقافي العام وبين واقع النشر ووجود الدواوين الشعرية في المغرب.

وفي ما يخص مواكبة النقد للشعر بالمغرب، أكد بنيس أنها مواكبة جيدة بالمقارنة مع بلاد عربية أخرى، سواء من خلال الصحافة أو من خلال الدراسات الجامعية، مبرزا أن هناك انتباها كبيرا للشعرية المغربية ولشعراء مغاربة، وهو ما أصبح يشكل متنا يستحق التقدير والتأمل. “أرى أن ما تحقق بالنسبة للشعر المغربي داخل المغرب أو خارجه هو شيء مهم جدا، رغم أنه يحتاج إلى إظهار أكثر وإلى اشتغال أكبر في هذا المجال”.

ويجزم صاحب ديوان “هبة الفراغ”، الذي سيصدر له قريبا كتاب في حلة جميلة بعنوان “أندلس الشعراء”، بأن الشعر المغربي له حاليا مكانته التي تترسخ يوما بعد يوم، والحركة النقدية تنتبه إليه، وأن الحركة الشعرية المغربية مفتوحة الآن على الأفق العالمي، معتقدا “بدون مبالغة أنها في مقدمة الحركات الشعرية المفتوحة على العالم”.

اقرأ أيضا

الاحصاء العام للسكان والسكنى.. انطلاق المرحلة الثانية من التكوين الحضوري للمشرفين الجماعيين والمراقبين المكونين بجهة الرباط -سلا – القنيطرة

الإثنين, 29 يوليو, 2024 في 14:58

انطلقت، اليوم الإثنين بالرباط، المرحلة الثانية من التكوين الحضوري الخاصة بتكوين المشرفين الجماعيين والمراقبين المكونين المشاركين في عملية الإحصاء العام للسكان والسكنى 2024 بجهة الرباط – سلا – القنيطرة.

أولمبياد باريس 2024.. راكب الأمواج المغربي رمزي بوخيام يتأهل إلى الدور الثالث

الإثنين, 29 يوليو, 2024 في 10:49

تأهل راكب الأمواج المغربي، رمزي بوخيام ، ليلة الأحد – الاثنين، بتيهوبو في تاهيتي، إلى الدور الثالث لمسابقة ركوب الأمواج، ضمن دورة الألعاب الأولمبية (باريس 2024).

بورصة الدار البيضاء : أداء إيجابي في تداولات الافتتاح

الإثنين, 29 يوليو, 2024 في 10:23

استهلت بورصة الدار البيضاء تداولاتها اليوم الإثنين بأداء إيجابي، حيث سجل مؤشرها الرئيسي “مازي” نموا بنسبة 0,38 في المائة ليستقر عند 13.824,97 نقطة.

MAP LIVE

MAP TV

الأكثر شعبية