فساد مالي وسياسي غير مسبوق يترك بصماته القوية على الأحداث في إسبانيا سنة 2013

(من المراسلة الدائمة للوكالة: فاطمة رفوق)

الجزيرة الخضراء – لم تكن سنة 2013 سنة تشبه سابقاتها في شبه الجزيرة الإيبيرية، فلم يكد يمر يوم دون إعلان أحد القضاة عن حالة من حالات الفساد وفتح ملفات متابعة جديدة في حق مسؤولين سياسيين ومقاولين ونقابيين وحتى رياضيين، بينهم شخصيات بارزة راكمت ثروات خيالية أثناء مزاولتها مهامها على حساب مخططات التنمية الشاملة.

لقد أثار حجم الفساد والاختلالات في تدبير الشؤون المحلية بأقاليم ومحافظات إسبانيا الكثير من الاستياء وجعل مصداقية السياسيين على كف عفريت، إلى درجة أن أصداء هذه الظاهرة التي تنامت في ظل الركود الاقتصادي الذي عاشته البلاد نتيجة الفقاعة العقارية الكارثية، تعالت إلى خارج الحدود واهتمت بها منظمات دولية، كمنظمة الشفافية الدولية التي أكدت في تقريرها الأخير أن إسبانيا تراجعت عشرة مراكز لتحتل المرتبة الأربعين على المؤشر العالمي للفساد الرسمي وذلك بعد الفضائح المتواترة للحزب الحاكم.

وأكدت المنظمة على لسان نائب مديرها التنفيذي، ميكلوس مارشال، أن إسبانيا هي ثاني الخاسرين في مؤشر الفساد لعام 2013، بعد سوريا التي وصفتها بالخاسر الأكبر في ظل الحرب الأهلية الدائرة رحاها في البلاد.

ومن أبرز القضايا التي لم تتوقف مذكرات المتابعة بشأنها في إسبانيا، نذكر على سبيل المثال لا الحصر قضية “إيري” التي هزت المجتمع الأندلسي بالنظر إلى حجم الأموال العمومية المختلسة (136 مليون أورو) وأعداد المتابعين فيها (أزيد من ألف متهم).

ويوجد من بينهم أعضاء في حزب العمال الاشتراكي الإسباني، ويتعلق الأمر بفضيحة دفع معاشات مبكرة زائفة من أموال مخصصة للتنمية لفائدة مئة شخص بينهم مستخدمون لم يسبق لهم العمل يوما في الشركات التي نسبوا إليها (12.3 مليون أورو) وأرباب مقاولات منها الوهمية، منحتهم الحكومة المحلية لإقليم الأندلس دعما غير قانوني (73.8 مليون أورو)، فضلا عن وسطاء بين هذه الحكومة والعمال المزعومين، استفادوا من عمولات تفوق بكثير عمولة السوق (رجال تأمين، محامون، نقابيون ومستشارون) قدرت ما بين 50 و68 مليون أورو.

ولا يكاد يمر يوم إلا وخرجت فيه القاضية مرسديس عليا، التي توجهت إليها عدسات الكاميرات وانصبت عليها أقلام الصحفيين، لتصفها مرة بالمرأة “النجمة” وأحيانا ب”الحديدية” لمستوى أدائها المهني وأخرى ب”الجذابة” لأناقتها المفرطة، وب”الصارمة” و”العديمة الشفقة” لحزمها في التعاطي مع هذه النازلة التي لم يفلت من الاتهام فيها رئيس الحكومة المحلية لإقليم الأندلس، الاشتراكي خوسيه أنطونيو غرينيان المستقيل أياما قبل الإعلان عن متابعته، بمذكرة اتهام جديدة تهتز لها فرائص كل من اشتغل بالقرب من أحد المتورطين في هذه الفضيحة التاريخية.

ومن بين أكبر قضايا الفساد السياسي التي لم تشهد لها إسبانيا نظيرا في تاريخها المعاصر، نذكر قضية “مالايا” التي توبع فيها حوالي مئة شخص ينتمون لحقول السياسة والأعمال والقانون، بتهمة الانتماء إلى شبكة مكرسة للفساد السياسي اغتنت من الخروقات العمرانية الكثيرة التي أتاحتها الطفرة العقارية في بلديات تابعة لمحافظات قادس ومالقة وقرطبة وويلبا وغرناطة وإشبيلية ومرسية ومدريد وبامبلوما، وبينهم عمداء سابقون ومستشارون بلديون وثلاثون مقاولا ومحامون وشركاء أساسيون.

وقد أدين عدد من هؤلاء في الرابع من أكتوبر (2013) بتهم الرشوة واختلاس أموال عمومية وغسل الرساميل وخيانة الثقة واستغلال النفوذ، وحوكم زعيم الشبكة، خوان أنطونيو روكا، مستشار التخطيط العمراني لمدينة ماربية ومدير التخطيط في مجلسها سابقا، ب11 عاما من السجن وغرامة قدرها 240 مليون أورو ومصادرة 29 عقارا في ملكيته ببلديات مرسية ومالقة ومدريد وأرصدته البنكية وسياراته الفاخرة وطائرته الخاصة وعددا من الخيول والثيران واللوحات الفنية النادرة.

كما تواجه العمدة السابقة لبلدية خيريز (قادس)، الاشتراكية بيلار سانشيز عقوبة بالسجن لمدة 7 سنوات ومنعها من مزاولة العمل في الإدارة لمدة 16 عاما في نازلة أخرى تعرف ب”قضية منطقة التجارة التفضيلية”، تتابع فيها بارتكاب جرائم الاختلاس وخيانة الأمانة وتزوير وثائق عمومية والغش الإداري بعد منحها مساعدة قدرها 244 ألف أورو لإحدى الشركات قصد إقامة مشروع في منطقة تصنف ضمن مناطق التجارة التفضيلية.

وتمر احتفالات حلول السنة الميلادية الجديدة دون أن ينتشي أمين المال السابق للحزب الشعبي الحاكم، لويس بارسيناس، بملايين الأورو التي جمعها، وفقا لاعترافاته، من تبرعات نقدية لمقاولين في قطاع البناء وأودعها في أبناك سويسرية، كما أودع أموالا أخرى في حسابات مفتوحة بجزر الباهاماس والأوروغواي والولايات المتحدة الأمريكية.

لقد جر بارسيناس الحزب الحاكم وعلى رأسه ماريانو راخوي المنهك بتداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية الشرسة التي تتخبط فيها البلاد، إلى بئر من الويلات، حيث طالبه نواب الأمة بالمثول أمام البرلمان لتقديم توضيحات بشأن التبرعات المزعومة وغير المشروعة التي تلقاها وزعماء آخرون في الحزب من كبار رجال الأعمال في قطاع البناء، مما جعله يذعن لضغوط المعارضة التي هددت بإجراء اقتراع لحجب الثقة عن حكومته.

ولم ينحصر الفساد في المجال السياسي فحسب، بل طال قطاع الرياضة ليحاكم رئيس نادي إشبيلية لكرة القدم، المحامي خوسيه مارية ديل نيدو، ب7 سنوات سجنا بعد إدانته أيضا في قضية اختلاس أموال عمومية وخيانة الأمانة، حيث اضطر لتقديم استقالته من منصبه في التاسع من الشهر الأخير من السنة، مقدما اعتذاره لجمهور الفريق الأندلسي بنبرة تغمرها عواطف الحسرة في لحظة اعتبرها الأسوأ في حياته.

ولم تكد تداعيات هذا الحكم الفجائي، الذي نزل كالصاعقة على فريق النادي الإشبيلي ومحبيه، تخفت، حتى أعلنت المفوضة الأوربية (18 دجنبر) عن فتحها تحقيقا رسميا مع 7 أندية إسبانية، على رأسها الناديين الشهيرين عبر العالم، ريال مدريد وبرشلونة، تتهمها بمزاعم فساد مالي وتلقي مساعدات حكومية غير مشروعة، كما أن هذه الهيئة الأوربية تريد التأكد مما إذا كان النظام الضريبي الذي تستفيد منه هذه الأندية يتماشى والقانون الأوربي المعمول به في المجال أم يتنافى معه بالكامل.

وكان الأرجنتيني ليونيل ميسي، نجم نادي برشلونة الإسباني المتنافس مع الفرنسي فرانك ريبيري، نجم بايرن ميونيخ، على الكرة الذهبية لعام 2013، قد خضع مع والده للتحقيق في نوفمبر الماضي على خلفية تورط مؤسسته الخيرية في عمليات غسيل أموال باهظة مستخلصة من تجارة المخدرات.

وتظل وقائع المحاكمات والمتابعات الثقيلة التي عاشتها العديد من المحافظات الإسبانية خلال سنة 2013، من بين الأحداث الكبرى التي عرفتها شبه الجزيرة الإيبيرية في تاريخها المعاصر وسجل فيها القضاء حضوره بامتياز لعله بذلك يعطي العبرة للمتبارين السياسيين على مناصب السلطة وتدبير الشأن العام بالبلاد في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.