حميد مخلوف .. ملحمة تزاوج بين الإحساس والصوت (بورتريه)

(حسين ميموني )

الرباط – توافدوا جميعا، حثوا الخطى ليكونوا هنا في الموعد، بمجرد أن تناهي إلى علمهم نبأ احتفاء وكالة المغرب العربي للأنباء بحميد مخلوف.
مساء أول أمس الجمعة، تحولت قاعة مصطفى الخوضي بالوكالة إلى مسرح للأحاسيس والمشاعر الفياضة، بتزامن مع لحظة فريدة، تم خلالها تكريم أحد الوجوه البارزة في المشهد الثقافي المغربي.
لم يكن من باب الصدفة أن تحج نخبة من الفنانين والمغنيين والملحنين والصحفيين والعاملين في قطاع الإشهار، إلى جانب أفراد من العائلة، للاحتفاء في جو حميمي احتفالي بأحد أعلام الثقافة، يشهد له الجميع بتنوع مواهبه وعمق وغنى إنتاجاته.
انبرت الشهادات، التي قدمتها بهذه المناسبة ثلة من الشخصيات التي رافقت المحتفى به أو عرفته عن قرب، لإبراز الخصال الإنسانية للرجل السبعيني الذي ينتصب بقامته المتوسطة، ونظراته العميقة من وراء نظارات طبية، والتي تكشف عن ذكاء حاد وشخصية فذة.
ومع تواتر شهادات مؤثرة كشفت عن جانب من معالم شخصية جمعت كل صفات الانسانية، حل حميد مخلوف بمسرح الاحتفال ببذلة سهرة سوداء وقميص أبيض. وبدا الرجل، الذي يرفض أن يشيخ، في أناقة باذخة.
وبالرغم من سنواته التي فاقت السبعين، وفي غياب التجاعيد التي لم تعرف طريقا إلى وجهه، وبخطوة واثقة وسريعة، وجسم رياضي، وذهن متقد، وحس فكاهي مرفق بخفة ظل كما كان عهده دائما، خاطب حميد مخلوف ضيوفه، مؤكدا، تحت وابل من التصفيقات، أنه لم يأت الليلة ببذلته المتأنقة للتوقيع على عقد زواج جديد، وإنما ليقدم شهادة واعترافا خلال هذا الحفل، بالفضل والامتنان لزوجته وشريكة حياته وأمينة سره.
حين تستمع إليه تختلط عليك الشخصيات والأصوات، وما بين الشاعر وكاتب كلمات الأغاني والمغني والملحن، والخطيب المفوه، والأديب والصحفي، وعاشق المسرح، ببساطة.. إنك أمام ملحمة انسانية تزاوج بين الإحساس والصوت.
ولد حميد مخلوف بفاس، حيث انخرط مبكرا في النهل من أجوائها الروحانية وطقوسها الدينية، قبل أن ينتقل إلى مدينة الدار البيضاء، حيث شب وترعرع في منطقة درب السلطان، ووجد نفسه يندفع منذ شبابه الأول بكل حماس نحو اكتشاف عوالم الإذاعة والحفر في أسرارها وسبر أغوار دروبها، اقتداء وتأسيا بالأعلام من صحفيي هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، الذين كانوا حينئذ يرتقون إلى مصاف النجوم. وبذلك بدأت رحلة طويلة وحافلة بالعطاء استمرت منذ سنة 1962، نسج خلالها علاقة وثيقة بالمستمعين سواء عبر ميكروفون الإذاعة الوطنية بالرباط أو عبر أمواج الإذاعتين الجهويتين للدار البيضاء وطنجة وكذا إذاعة (ميدي1).
وبعد أن زاوج بين مسار يجمع بين العمل كأستاذ للتعليم الثانوي والتنشيط الإذاعي، شكل إلى جانب الصحفية والإذاعية آسية فردوس، ثنائيا ناجحا، حيث عمل على تنشيط وإنتاج وإخراج برامج متميزة، من بينها (من وحي الكلمات)، و(من كل بستان زهرة)، و(صور من الحياة)، و(جوال) ، و(دكان الألحان)، و(فرحة اللقاء).
وفاز مخلوف، الذي ظل هائما في سحر الكلمة، بجائزة أفضل نص غنائي حول سد “اكليلة” الذي أضحى يحمل اسم سد محمد الخامس، والذي لحنه الفنان الراحل عبد الرحيم السقاط وغناه الفنان الراحل المعطي بلقاسم.
وفي هذا السياق، يعد حميد مخلوف أحد الآباء المؤسسين للأغنية المغربية العصرية، مع بداية سنوات الستينيات، إلى جانب قامات من قبيل الراحلين أحمد الطيب العلج وحسن المفتي، والذين عملوا جميعا على الارتقاء بالأغنية الوطنية إلى مصاف نظيرتها المصرية التي كانت لها السيادة والسطوة في تلك الفترة.
كان حميد مخلوف ينظم بحماس وحيوية في شتى أنواع الشعر ودروب القافية وفنون النثر، وينتج أغان دينية ووطنية واجتماعية وعاطفية شتى، بحس انساني وفني مرهف لا يخلو من عمق ومعاني نبيلة. وقد أصدر المحتفى به ديوان شعر بعنوان “كلمات بطعم الحب”، حفل بأرق وأعذب ما خطته أنامله ودونه يراعه.
وانطلاقا من مواهبه الفذة في الخطابة وشغفه المتجدد بالتجديد والتواصل، انخرط حميد مخلوف سريعا في عالم الإشهار، من خلال تقديم وصلات إشهارية ظلت خالدة في أذهان أجيال متعاقبة من المغاربة، وشكلت جزءا من الذاكرة الجماعية وشاهدا على التطور الاجتماعي والثقافي للمغرب، بفضل سلاستها وعذوبتها وبساطتها وعفويتها. وحفظا لهذا التراث العريق، فقد تم تجميع جزء من هذه الوصلات الإشهارية في قرص مدمج.
ويحفل الرصيد العلمي لحميد مخلوف، الذي ينتسب إلى عدد من الجمعيات والمحافل الفنية والأدبية، بعدد من الشهادات الفخرية وشواهد الاستحقاق والتكريم.
وهو أب لبنت وولدين، أحدهما قضى في حادث مروري، وجد لست حفيدات انخرطن بحماس في عالم الفن والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية، بما يؤكد بشكل واضح أن الفن يجري في دماء العائلة بشكل متوارث.